عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥

جعلني كافرا جائرا ، وتلا قوله : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(١).

قوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ)(٢) أي ذوات القسط ، أو جعلها نفس القسط مبالغة. و «القسطاس» (٣) قيل : هو القسط فزيد فيه وجعل اسما للمزادة لأنّ به يحصل العدل. وفي قاف القسطاس لغتان : ضمّها وكسرها ، وقرىء بهما في السّبع. وقيل : هو روميّ فعرّب.

والقسط ـ أيضا ـ الإناء الذي يتوضأ منه ، قيل : هو نصف صاع ، وفي الحديث ، «إنّ النساء من أسفه السّفهاء إلا صاحبة القسط والسّراج» (٤) قيل : أراد إلّا التي تخدمه بأن تقدّم له وضوءه وتقوم على رأسه بالسراج تضيء عليه به.

ق س م :

قوله تعالى : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ)(٥) أي وحرّم عليكم استقسامكم بالقداح ، وقد مرّ تفسيرها. والمعنى طلب معرفة ما قسم للإنسان من خير أو شرّ ، نفع أو ضرّ ، حياة أو موت ، ظفر أو خذلان ، كما كانت الجاهلية وأكثر الجهلة يفعلونه. وقال أبو سعيد الضّرير : يقال تركت فلانا يستقسم أي يفكر ، ويروّي بين أمرين. قوله تعالى : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ)(٦). قال ابن عرفة : هم الذين تقاسموا وتحالفوا على كيد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن عباس : هم اليهود والنّصارى. قيل : واستعمال القسم بمعنى الحلف أصله من القسامة ، وهي أيمان تقسم على أولياء المقتول ، ثم صار اسما لكلّ حلف.

قوله : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً)(٧) يعني الملائكة لأنها تقسّم أي تفرّق أمور العالم من

__________________

(١) ١ / الأنعام : ٦.

(٢) ٤٧ / الأنبياء : ٢١.

(٣) ٣٥ / الإسراء : ١٧.

(٤) النهاية : ٤ / ٦٠ ، والضمير المقدر عائد على الزوج.

(٥) ٣ / المائدة : ٥.

(٦) ٩٠ / الحجر : ١٥.

(٧) ٤ / الذاريات : ٥١.

٣٦١

الأرزاق والأجال والسعادة والشقاء. قوله : (وَقاسَمَهُما)(١) أي حلف لهما. فالمفاعلة بمعنى الفعل. وقيل : حلف لهما أنّه لهما من الناصحين وحلفا له أنّهما لمن القابلين أمره ونصحه.

وفلان قسيم الوجه أي صبيحه ، والقسامة : الحسن ، وأصله من القسم كأنّما أوتي كلّ موضع نصيبه من الحسن فلم يتفاوت. وقيل : لأنّه يقسم بحسنه الطّرف فلا يثبت في موضع. قال الشاعر (٢) : [من الطويل]

ويوما توافينا بوجه مقسّم

كأن ظبية تعطو إلى وارق السّلم

قلت : كان من حقّه على المعنى الثاني أن تكسر سينه لأنه فاعل لذلك. والبيت يروى «ظبية» بالحركات الثلاث ، وكل منها ضرورة بيّنتها في غير هذا الموضع.

وتقسّم قلبه ، أي تفرّق من الهمّ وتوزّع خاطره. والقسم بالفتح مصدر قسمت الشيء ، وبالكسر اسم لذلك المقسوم. وفي حديث أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه : «أنا قسيم النار» (٣) قال القتيبيّ : يعني أنّ الناس فريقان ؛ فريق معي ؛ فهم في الجنة ، وفريق عليّ ؛ فهم على ضلال كالخوارج. فقسيم في معنى مقاسم كالجليس والشّريب بمعنى مجالس ومشارب ، وأنشد (٤) : [من الطويل]

عليه شريب وادع ليّن العصا

يساجلها حمّاته وتساجله

والقسامة ـ بالضم ـ الصّدقة ، ومنه الحديث : «مثل الذي يأكل القسامة» وفي آخر «إيّاكم» (٥).

ويقال لحرّ الوجه قسمة. وأنشد (٦) : [من الطويل]

كأنّ دنانيرا على قسماتهم

وإن كان قد شفّ الوجوه لقاء

__________________

(١) ٢١ / الأعراف : ٧.

(٢) البيت لكعب بن أرقم اليشكري من قطعة لزوجته ، وقيل : هو لباعث بن صريم اليشكري ـ اللسان مادة : قسم.

(٣) النهاية : ٤ / ٦١.

(٤) البيت لمعن بن أوس ، اللسان ـ مادة (ود ع) ، وفيه : لين وادع العصا.

(٥) النهاية : ٤ / ٦٢ ، وانظر أبا داود ، الجهاد : ١٦٧.

(٦) البيت ـ من قطعة ـ لمحرز بن مكعبر الضبي ، اللسان ـ مادة قسم.

٣٦٢

ق س و :

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً)(١). القسوة : غلظ القلب وصلابته وخلّوه من الرحمة ، وضدّه اللين. يقال : قسا قلبه يقسو. وقسا الحديد : صلب وقال الراغب : القسوة غلظ القلب وأصله من حجر قاس. والمقاساة : معالجة ذلك. وقرىء (قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) اسم فاعل من قسا يقسو ، و «قسيّة» (٢) من قولهم درهم قسيّ ، وهو ما فيه غشّ ؛ فإنّ الخالص من الفضة والذهب ليّن ، والمغشوش منهما صلب يتعب عند عمله. وعن ابن مسعود : «كانت زيوفا وقسيانا» (٣) قال أبو عبيد : واحد القسيان. درهم قسيّ مخفّف السين مشدد الياء مثل شقيّ. قال الهرويّ : كأنه إعراب قاس ، ومنه الحديث الآخر : «ما يسرّني دين الذي يأتي العرّاف بدرهم قسيّ» (٤) انتهى. يعني أنه معرّب من مادة (ق سّ) وفيه نظر. وعن الشعبيّ أنه قال لفلان (٥) : «يأتينا بهذه الأحاديث قسية وتأخذها منّا طازجة» أي رديئة وتأخذها منا خالصة ، وهو إعراب تازه (٦).

فصل القاف والشين

ق ش ع :

قوله تعالى : (مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)(٧) الاقشعرار أن يلحق الجسم قشعريرة ، وهي الرّعدة النافضة للجسم من تذكّر شيء مهيب أو هجومه. ويكون ذلك

__________________

(١) ١٣ / المائدة : ٥.

(٢) بضم القاف قراءة الضبي عن يحيى ، وبعضهم كسر القاف مع السين لإبراهيم النخعي (مختصر الشواذ : ٣١).

(٣) النهاية : ٤ / ٦٣.

(٤) المصدر السابق ، وهو كذلك لابن مسعود.

(٥) يريد أبا الزّناد. والحديث في المصدر السابق.

(٦) تازه : (فارسية) معناها؟؟ ضج جاهز والهاء حولت إلى جيم لدى التعريب.

(٧) ٢٣ / الزمر : ٣٩.

٣٦٣

في الفرح والتّرح ، ووزن اقشعرّ افعللّ. والمصدر الاقشعرار ، والاسم القشعريرة فهو مقشعرّ ومقشعرّ منه.

فصل القاف والصاد

ق ص د :

قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ)(١). المقتصد : المستوي الحال بين الحالين ، ولذلك قال تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ ؛) فالمقتصد بين الظالم والسابق. وأصل القصد استقامة الطريق ، وقصدت قصده : نحوت نحوه ، ومنه الاقتصاد وهو على نوعين : الأول محمود مطلقا وذلك فيما له طرفان : إفراط وتفريط ، كالجود فإنّه بين الإسراف والتّقتير ، وكالشجاعة فإنّها بين الجبن والتهوّر. وإلى هذا النحو من الاقتصاد أشار بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا)(٢). والثاني يكنّى عمّا يتردّد بين المحمود والمذموم ، وهو فيما يقع بين محمود ومذموم كالواقع بين الجور والعدل ، والبعيد والقريب ، وإليه أشار بقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ).

قوله : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً)(٣) أي متوسّطا بين القرب والبعد ، فهو غير متناهي الطّرفين طولا وقصرا. وهذا مراد من فسّره بقوله سفرا قريبا ، والتحقيق ما قدّمته ، وقيل : معناه غير شاقّ.

قوله : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)(٤) أي تبيّن الطريق الواضح المستقيم بالدلائل

__________________

(١) ٣٢ / فاطر : ٣٥.

(٢) ٦٧ / الفرقان : ٢٥.

(٣) ٤٢ / التوبة : ٩.

(٤) ٩ / النحل : ١٦.

٣٦٤

والبراهين. وفي الحديث في صفته عليه الصلاة والسّلام : «كان أبيض مقصّدا» (١) أي ليس. بجسيم ولا قصير. وقال شمر : هو القصد من الرجال نحو الرّبعة.

وقولهم : أقصد السّهم أي أصاب ، وقتل مكانه كأنه وجد قصده ، على المجاز. وأنشد (٢) : [من الكامل]

فأصاب قلبك غير أن لم تقصد

وانقصد الرمح : انكسر ، وتقصّد : تكسّر. وقصد الرماح : قطعها ، وفي الحديث : «كانت المداعسة بالرّماح حتّى تقصّدت» (٣) أي تكسّرت وصارت قصدا. وناقة قصيد : مكتنزة اللحم. والقصيد من الشّعر : ما تمّ سبعة أبيات (٤).

ق ص ر :

قوله تعالى : (لا يُقْصِرُونَ)(٥) أي لا يكفّون. يقال : قصّر وأقصر : إذا كفّ ، قاله الهرويّ ، وقال الراغب : قصّر في كذا : توانى ، وقصّر عنه لم ينله ، وأقصر عنه : إذا كفّ مع القدرة عليه.

قوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ)(٦) قيل : معناه مجعولات في القصور ؛ يقال : قصرته : إذا جعلته في القصر ، وقيل : معناه محبوسات. وأصل القصر : الحبس فهو في الأصل مصدر سمي به المكان المقصور فيه. ويبعد الأول قوله (فِي الْخِيامِ)(٧) إلا أن يؤوّل بأنّ القصور في داخل الخيام.

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٦٧.

(٢) عجز للنابغة وصدره (الديوان : ٣٠) :

في إثر غانية رمتك بسهمها

(٣) النهاية : ٤ / ٦٨.

(٤) وفي الأصل : شطرا بيته ، ولعله وهم من الناسخ.

(٥) ٢٠٢ / الأعراف : ٧.

(٦) ٧٢ / الرحمن : ٥٥.

(٧) تابع الآية السابقة.

٣٦٥

والقصر ضدّ الطول فهما متقابلان ، قال كعب بن زهير رضي الله عنه (١) : [من البسيط]

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة

لا يشتكى قصر منها ولا طول

وقصرت كذا : جعلته قصيرا. والتّقصير : اسم للتّضييع. وقصرت كذا : ضممت بعضه إلى بعض. قيل ومنه القصر والجمع قصور.

قوله : (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ)(٢) قيل : هو القصر المعهود شبّهها بالقصر المبنيّ تهويلا. وإذا كانت الشررة التي تتعارف في الدنيا بهذا القدر فكيف بنارها؟ أعاذنا الله منها بمحمد وآله. وقيل : القصر اسم جنس لقصرة ، كقمح وقمحة. والقصرة : أصل الشجر مثل جمرة وجمر كذا نقل الراغب (٣). والمعروف أنّ ذلك قصر ـ بفتح الصاد ـ جمع قصرة. ثم اختلف في تفسيرها فقيل : هي أعناق الإبل وقيل : أصول الشجر. وقيل : كأعناق البخت. ويؤيده الحديث : «من كان له بالمدينة أصل فليتمسّك به ومن لم يكن فليجعل له بها أصلا ولو قصرة» (٤) الرواية بفتح العين. وقرأ ابن عباس «كالقصر» بالفتح (٥) ، وفسّر بجميع ما تقدّم.

وقصرت الصلاة : جعلتها قصيرة بترك بعض أركانها ترخيصا. وقصرت اللقحة على فرسي : قصرت درّها عليه. وقصر السهم عن الهدف : أي لم يبلغه.

قوله : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ)(٦) معناه أنهنّ يقصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ فلا ينظرن إلى غيرهم رضى بأزواجهنّ. وقيل : معناه لا يمددن أعينهن إلى ما لا يجوز. وهذا المعنى مقول في حقّه «حور مقصورات» (٧) أي مخدّرات.

__________________

(١) البيت في حاشية الديوان : ٦ ، والبيت مذكور في جمهرة أشعار العرب : ٣٠٨ ، في البيت الثالث من «بانت سعاد».

(٢) ٣٢ / المرسلات : ٧٧.

(٣) المفردات : ٤٠٥.

(٤) النهاية : ٤ / ٦٨.

(٥) وقرأها سعيد بن جبير ورواها أبو حاتم (المحتسب : ٢ / ٣٤٦).

(٦) ٥٦ / الرحمن : ٥٥.

(٧) ٧٢ / الرحمن : ٥٥.

٣٦٦

والقصارة : ما بقي في السنبل بعد دوسه (١) والشاميون يعدونه القصريّ. والقصريّ بزنة فعليّ (٢). والاقتصار على الشيء : الاكتفاء به وكأنّه قنع بالقصير منه أي القليل. وأقصرت الشاة : أسنّت من قصر أطراف أسنانها.

وأقصرت المرأة : ولدت أولادا قصارا. والتّقصار : قلادة قصيرة. والقوصرة : الوعاء المعروف يجعل فيه التمر ونحوه جعله الراغب من هذه المادة (٣) والظاهر أنه معرب لا عربيّ.

ق ص ص :

قوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ)(٤) أي نبين لك أحسن البيان ، من قولهم : قصّ فلان الخبر أي أتى بقصته من قصّها ، وأصله من قصّ الأثر أي تتبّعه حتى عرف صاحبه أين سلك. والقصص : الأثر نفسه ؛ قال تعالى : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً)(٥) ومنه القصيص : وهو ما يبقى من الكلأ بعد تتبّعه بالرعي والجزّ.

والقصص : الأخبار المتتبّعة ، ثم جعل الاستقصاء عبارة عن تتبّع كلّ شيء.

والقصاص المشروع لأنّه يتبع الدم بالقود (٦). وأقصّ فلان فلانا ، واقتصّ منه ، وضربه فأقصّه أي أدناه من الموت.

والقصّ : الجصّ ، ومنه الحديث : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تقصيص القبور» (٧). قال أبو عبيدة : وذلك أنّ الجصّ يقال له القصّة. والجصاص والقصاص واحد ، قال ابن الأعرابيّ : فإذا خلطه بالنّورة أو الرّماد فهو الجيّار (٨).

__________________

(١) وفي الأصل : دياسه ، والتصويب من اللسان.

(٢) وذكر ابن منظور «القصرى» على زنة فعلى.

(٣) المفردات : ٤٠٥.

(٤) ٣ / يوسف : ١٢.

(٥) ٦٤ / الكهف : ١٨.

(٦) وهو القتل بالقتل أو الجرح بالجرح.

(٧) النهاية : ٤ / ٧١.

(٨) الجيار : الصاروخ وهو مزيج الرماد بالنورة والجص (اللسان ـ جير).

٣٦٧

قوله تعالى : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ)(١) أي تتبّعي أثره. ويجوز بالسّين قسست قسّا. وقوله : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً)(٢) أي رجعا من الطريق الذي سلكاه يقصّان الأثر. وفي الحديث : «ورأيته مقصّصا» (٣) قال ابن قتيبة : المقصّص : الذي له جمّة ، وكلّ خصلة من الشعر قصّة.

قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ)(٤) أي القود لأنه يتبع الدم ، وقيل : لأنه مأخوذ من القطع ، ومنه قصصت أظفاري ، فالمقتصّ يجرحه مثل جرحه أو يقتله مثل قتله به. وفي حديث عائشة : «لا تغتسلن من المحيض حتى ترين القصّة البيضاء» (٥) قيل : معناه أن تخرج القطنة أو الخرقة التي تحتثي بها نقية كالقصّة من غير أن يخالطها صفرة ولا تريّة ؛ التريّة : الخفيّ اليسير ، وهي أقلّ من الصفرة ، وقيل : القصّة كالخيط الأبيض تخرج بعد انقطاع الدّم.

ق ص ف :

قوله تعالى : (قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ)(٦) هو الذي إذا مرّ على شيء قصفه وكسره من بناء وشجر وغير ذلك. ورعد قاصف : في صوته تكسّر. وسمي صوت المعازف قصفا لذلك ، ثم تجوّز به عن كلّ لهو ؛ فقيل : فلان يقصف قصفا. وروي عن ابن عمر : «الرياح ثمان : أربع عذاب وأربع رحمة ؛ فأمّا الرحمة فالناشرات الذاريات والمرسلات والمبشّرات. وأما العذاب فالعاصف والقاصف وهما في البحر / والصّرصر والعقيم وهما في البرّ» (٧). وفي الحديث : «أنا والنبيّون فرّاط القاصفين» (٨) قال ابن الأنباريّ : معناه متقدّمون في الشفاعة

__________________

(١) ١١ / القصص : ٢٨.

(٢) ٦٤ / الكهف : ١٨.

(٣) النهاية : ٤ / ٧١.

(٤) ١٧٨ / البقرة : ٢.

(٥) النهاية : ٤ / ٧١.

(٦) ٦٩ / الإسراء : ١٧.

(٧) الحديث في اللسان ـ مادة قصف.

(٨) النهاية : ٤ / ٧٣.

٣٦٨

لقوم كثيرين متدافعين مزدحمين. وقيل : هم الذين يزدحمون حتى يقصف بعضهم بعضا ، بدارا إليها.

ق ص م :

قوله تعالى : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً)(١) القصم : الحطم والهشم ، ويعبّر به عن الهلاك. والقصم كسر وبينونة ، والفصم من غير بينونة كما تقدّم في باب الفاء. وعبّر عن الهلاك بقاصمة الظهر. ورجل قصيم أي يكسر من قاومه ، وفلان أقصم البنية أي يكسرها ، وفي الحديث : «فما ترتفع في السماء من قصمة إلا ويفتح الله بابا من النار» (٢) يعني الشمس. والقصمة : مرقاة الدّرجة ، سميت قصمة لأنها كسرة.

ق ص و :

قوله تعالى : (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا)(٣) أي بعيدا ، وأصله قصيو فأدغم. والأقصى : الأبعد ، ومنه قوله تعالى : (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)(٤) وهو بيت المقدس عبّر عنه بذلك اعتبارا بمكان المخاطبين به من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه.

يقال : قصوت عنه ، وأقصيت : أبعدت. والناحية القصوى تأنيث الأقصى. وقصوت البعير : قطعت أذنه. وناقة قصواء من ذلك. قيل : ولا يقال : بعير أقصى. والقصيّة من الإبل ، البعيدة من الاستعمال ، وكان من حقّها قصيا بقلب واو يائها كأخواتها من الدنيا والعليا ، وقد أتقنّا هذا في غير هذا الموضع.

__________________

(١) ١١ / الأنبياء : ٢١.

(٢) النهاية : ٤ / ٧٤ ، وفيه : « .. إلا فتح لها باب من النار».

(٣) ٢٢ / مريم : ١٩.

(٤) ١ / الإسراء : ١٧.

٣٦٩

فصل القاف والضاد

ق ض ب :

قوله تعالى : (حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً)(١) القضب : الرطبة التي ترعى ، والمقاضب : الأراضي التي تنبتها ، سميت بذلك لأنها تقضب أي تقطع ، وقيل : القضب : كلّ نبت اقتضب أي قطع فأكل رطبا ، ومنه أخذ الحديث المقتضب أي الذي يتكلّم به من غير رويّة ولا تدبّر لعواقبه. ومنه قيل للناقة المركوبة من غير رياضة قضيب لأنها اقتضبت من بين الإبل من غير أن تهذّب.

وسيف قاضب وقضب : أي قاطع. وفي الحديث : «إذا رأى في ثوب ـ وروي : إذا رئي ـ التصليب في شيء قضبه» (٢) أي قطع موضع التّصليب منه.

والقضيب نحو القضب لكن القضيب يستعمل في فروع الشجر ، والقضب يستعمل في البقل. والقضب : قطع القضيب ، فقضيب هنا بمعنى مفعول ، وفي سيف قضيب بمعنى فاعل.

ق ض ض :

قوله تعالى : (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ)(٣) أي ينهدم. يقال : انقضّ الجدار ينقضّ انقضاضا ، وهو مطاوع قضضت. وقرىء ينقاضّ (٤) أي ينقطع من أصله. ويقال : انقاضّت البئر : انهارت.

__________________

(١) ٢٧ و ٢٨ / عبس : ٨٠.

(٢) النهاية : ٤ / ٧٦ ، من حديث السيدة عائشة.

(٣) ٧٧ / الكهف : ١٨.

(٤) قراءة الزهري ويحيى بن يعمر «ينفاصّ» بالفاء والصاد ، وقراءة ابن مسعود بالقاف «ينقاضّ» ؛ فبالصاد المهملة أي ينشق طولا ، وبالضاد المعجمة أي يسقط بسرعة (مختصر الشواذ : ٨١).

٣٧٠

وقولهم : جاؤوا قضّهم بقضيضهم (١) أي مجتمعين. وأصله من اجتماع الحصى الصغار فإنها تسمّى القضّ والقضيض. ومنه قولهم : أقضّ مضجعه : أي صار فيه القضّ وهو الحصى الصغار (٢) ، ثم عبّر عن القلق. ومنه قول أبي ذؤيب الهذليّ يرثي بنيه ، وكانوا خمسة (٣) : [من الكامل]

أم ما لجسمك لا يلائم مضجعا

إلّا أقضّ عليك ذاك المضجع

ولما هدم ابن الزبير الكعبة أخذ رجل العتلة فعتل ناحية من الرّبض فأقضّه (٤) أي جعله بمنزلة القضّ لتكسّره إياها.

وقضقض : تكرير قضّ ؛ يقال : قضقض الأسد فريسته إذا هشمها وكسرها بليغا. ومنه أسد قضقاض. وفي حديث مانع الزكاة : «يمثّل له كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع فيلقمه يده فيقضقضها» (٥) أي يكسرها. وفي آخر : «بعد ما ضربت رأسه بالسيف فتقضقضوا» (٦) أي تفرقوا.

ق ض ي :

قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ)(٧) أي حكم وبتّ. قال ابن عرفة : القضاء إحكام الشيء والفراغ منه ، وبه سمي القاضي. والقضاء من الله حكم على عباده يطيعونه به ويعصونه به ، ومن ذلك : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي حكم بذلك تعبّدا ، قال : فلو كان القضاء

__________________

(١) المستقصى : ٢ / ٤٧ ، أي جاؤوا مجتمعين متفضا آخرهم على أولهم.

(٢) قال الزمخشري في المستقصى : «وقيل : القض الحصا الصغار والقضيض الحصا الكبار».

(٣) ديوان الهذليين : ١ / ٢ ، وفيه : أم مالجنبك.

(٤) النهاية : ٤ / ٧٧ ، والرجل هو ابن مطيع.

(٥) النهاية : ٤ / ٧٧ ، وليس فيه كلمة «أقرع».

(٦) النهاية : ٤ / ٧٧ ، والحديث لصفية بنت عبد المطلب. وفي النص اختصار.

(٧) ٢٣ / الإسراء : ١٧.

٣٧١

إمضاء وإرادة لما عبد أحد غيره ، كما أنّه قضاء الموت فليس أحد ينجو منه لأنه قضاء إمضاء وإرادة. وقال آخرون : القضاء فصل الأمر قولا كان أو فعلا ، وكلّ منهما نوعان : إلهيّ وبشريّ ؛ فمن الأول قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي أمر.

قوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ)(١) أي أعلمناهم وأوحينا إليهم وحيا جزما فهذا قضاء بالإعلام والفصل في الحكم.

قوله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ)(٢) إشارة إلى إيجاده الإبداعيّ والفراغ منه. قوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)(٣) أي فصل. ومن القول البشريّ قوله : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ)(٤) قوله : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ)(٥) أي افزعوا إلى أمر ربّكم وأفضوا ما في أنفسكم.

قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)(٦) أي لفرغ من الأمر وفصل بينك وبينهم.

ويعبّر عن الموت بالقضاء ؛ قال الله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ)(٧) لأنه فصل أمره المختصّ به من دنياه ، وقيل : قضى نذره لأنّه كان نذر وألزم نفسه أنه إذا لقي عدوا لا ينكل عنه أو يموت دونه. وقيل : لأنّ الموت كالمنذور عليه فوفى به.

قوله : (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ)(٨) أي ليمتنا فنستريح. ولذلك قال في موضع آخر (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا)(٩). وقوله : (فَقَضى عَلَيْهِ)(١٠) أي أماته ، وهو معنى قول

__________________

(١) ٤ / الإسراء : ١٧.

(٢) ١٢ / فصلت : ٤١.

(٣) ١٤ / الشورى : ٤٢.

(٤) ٢٠٠ / البقرة : ٢.

(٥) ٧١ / يونس : ١٠.

(٦) ١٩ / يونس : ١٠ ، وغيرها.

(٧) ٢٣ / الأحزاب : ٣٣.

(٨) ٧٧ / الزخرف : ٤٣.

(٩) ٣٦ / فاطر : ٣٥.

(١٠) ١٥ / القصص : ٢٨.

٣٧٢

المفسّرين ؛ وقال الأزهريّ : قضى في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه منها. قوله تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً)(١) معناه ختم أجلا وأتمّه. ومنها الأمر ومنه قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)(٢) معناه أمر ربّك ، لأنه أمر قاطع حتم. ومنها الإعلام وهو قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ)(٣) أي أعلمناهم إعلاما قاطعا. ومثله : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ)(٤). ومنها القضاء الفصل في الحكم ، ومنه قوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)(٥) أي لفصل الحكم بينهم.

وقضى دينه : أي قطع / الغريمة عليه بالأداء. ومنها إحكام العمل يقال : قضيت هذه الدار أي أحكمت عملها ، ومنه قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ)(٦) أي خلقهنّ وصنعهنّ صنعا محكما. ومنها قطع الشيء بإحكام ، وأنشد لأبي ذؤيب الهذليّ (٧) : [من الكامل]

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السّوابغ تبّع

ومنها البيان ، ومنه قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)(٨) أي يبيّن لك بيانه فتفرغ منه.

قوله : (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ)(٩) كناية عن الموت ، والمعنى أنّها حالة يتمنّى فيها الموت. وعن بعض الحكماء : ما أصعب من الموت؟ فقال : حالة يتمنّى فيها الموت.

والاقتضاء : المطالبة بقضاء الدّين ، ومنه قولهم : هذا يقتضي كذا ، أي يطلب وجهه الذي يستحقّ أن يكون عليه.

__________________

(١) ٢ / الأنعام : ٦.

(٢) ٢٣ / الإسراء : ١٧.

(٣) ٤ / الإسراء : ١٧.

(٤) ٦٦ / الحجر : ١٥.

(٥) ٢١ / الشورى : ٤٢ ، وفي الأصل ذكر آية : «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ..» ولعله خطأ من الناسخ.

(٦) ١٢ / فصلت : ٤١.

(٧) ديوان الهذليين : ١ / ١٩.

(٨) ١١٤ / طه : ٢٠.

(٩) ٢٧ / الحاقة. ٦٩.

٣٧٣

قوله : (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)(١) وقرىء «قضى» مبنيا للفاعل. و «أجلهم» نصبا (٢). والمعنى لفرغ من أجلهم ومدّتهم المضروبة لحياتهم. قال بعضهم : القضاء من الله أخصّ من القدر ، لأنه الفصل بين التقدير. والقدر هو التقدير. والقضاء هو التفصيل والقطع. وذكر بعض العلماء أنّ القدر بمنزلة المعدّ للكيل ، والقضاء بمنزلة الكيل. ولهذا قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنه لما أراد الفرار من الطاعون بالشام : «أتفرّ من القضاء؟ قال : أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله» تنبيها أنّ القدر لمّا لم يكن قضاء فمرجوّ أن يدفعه الله ، فإذا قضى فلا مدفع له ، قاله الراغب (٣) قال : ويشهد لذلك قوله تعالى : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا)(٤).

قوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ)(٥) أي فصل تنبيها أنه صار بحيث لا يمكن تلافيه. وكلّ أمر مقطوع به من قولك : هو كذا أو ليس بكذا ، يقال له قضيّة صادقة وقضية كاذبة ، وإياها عنى من قال : التجربة خطر والقضاء عسر ، أي الحكم بالشيء أنه كذا أو ليس بكذا أمر صعب ، ومنه قول عليه الصلاة والسّلام في حقّ علي رضي الله عنه : «أقضاكم عليّ» (٦).

قوله : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ)(٧) أي امض ما أنت ممض من أمر الدنيا. قوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أمضى هلاك قوم نوح عليه‌السلام والملائكة. «وقضي الأمر» أي فرغ لهم ممّا كانوا يوعدون.

__________________

(١) ١١ / يونس : ١٠.

(٢) هي قراءة ابن عامر ويعقوب (معاني القرآن للفراء وحاشيته : ١ / ٤٥٨).

(٣) المفردات : ٤٠٧.

(٤) ٢١ / مريم : ١٩.

(٥) ٤٤ / هود : ١١.

(٦) صحيح البخاري ، تفسير ٢.

(٧) ٧٢ / طه : ٢٠.

٣٧٤

فصل القاف والطاء

ق ط ر :

قوله تعالى : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها)(١) الأقطار جمع قطر وهو الناحية والجانب ، ومنه قطرته أي ألقيته على قطره فجعل كناية عن القتل والصرع ، وأنشد (٢) : [من السريع]

قد علمت سلمى وجاراتها

ما قطّر الفارس إلّا أنا

وتقطّر : وقع على قطره ، ومنه قطر المطر وهو سقوطه ، ومنه تقاطر القوم أي صاروا أرسالا كقطر المطر ، ومنه قطار الإبل لتتابعها. وتقول العرب : تقطّر الجلب (٣) معناه أنّ الزاد إذا نفد احتاجوا فقطروا إبلهم يجلبونها للبيع للحاجة.

ويقال : ما أبالي على أيّ قطريه وقع ، أي على أيّ شقّيه الأيمن أو الأيسر.

قوله : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً)(٤) أي نحاسا مذابا يقطر كالمطر ، ومثله : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ)(٥). قوله : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ)(٦) هو ما تطلى به الإبل من الجرب ، ويسمّى الهناء سمي بذلك لأنه يتقاطر. وقرىء «من قطر آن» (٧) أي من نحاس مذاب قد أنى حرّه وتناهى.

__________________

(١) ١٤ / الأحزاب : ٣٣.

(٢) اللسان ـ مادة قطر.

(٣) يقولون : «الإنفاض يقطر الجلب» (المفردات : ٤٠٧).

(٤) ٩٦ / الكهف : ١٨.

(٥) ١٢ / سبأ : ٣٤.

(٦) ٥٠ / إبراهيم : ١٤.

(٧) فسّرها ابن عباس «من قطر آن» : قد انتهى حرّه ، وكذا قرأها (معاني القرآن للفراء : ٢ / ٨٢) وكذا قرأها عيسى وأبو هريرة وجماعة (مختصر الشواذ : ٧٠).

٣٧٥

قوله : (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ)(١) القناطير جمع قنطار ، وهو مقدار معروف ، قيل : هو أربعون أوقية ، وقال الحسن : هو ألف دينار ومئتا دينار ، وقيل : ملء مسك ثور ذهبا ، إلى أقوال مختلفة. وقيل : لا حدّ له. وقال الأصفهانيّ : القناطير جمع القنطرة ، وهو من المال ما فيه مقدار عبور الحياة تشبيها بالقنطرة ، وذلك غير محدود القدر في نفسه ، وإنما هو بحسب الإفاضة كالغنى فربّ من يستغني بقليل وآخر لا يستغني بكثير ، وهذا الذي قاله من كون القناطير جمع قنطرة غير صحيح إذ كان ينبغي أن تكون قناطير من غير ياء فأمّا الياء في القناطير فبدل الألف التي في المفرد ، ولا يجوز أن تكون إشباعا ، فإنه ضرورة كقوله (٢) : [من البسيط]

تنفي يداها الحصى في كلّ هاجرة

نفي الدّراهيم تنقاد الصّياريف

يريد الدراهم والصيارف فأشبع.

قوله : (الْمُقَنْطَرَةِ) أي المجموعة قنطارا قنطارا ، كقولهم : دراهم مدرهمة ، ودنانير مدنّرة ، يقصدون بذلك المبالغة والكثرة. ومن رباعيه قطرب ، وهو دويبّة لا تستريح نهارها بل تدأب سعيا ، وبه سمي الإمام المشهور محمد بن المستنير لدأبه في طلب العلم ، ويا لها منقبة وتلقيبا! (٣).

ق ط ط :

قوله تعالى : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا)(٤) أي حظّنا ونصيبنا المقطوع لنا وذلك أنّ القطّ القطع ، ومنه قطّ القلم كأنّه قطعة من الرزق.

و «قط» ظرف زمان ماض لا يستعمل إلا منفيا لأنه قطعة من الزمان ، وله أحكام وفيه لغات ؛ فتح القاف ، وضمّها ، مع تشديد الطاء ، وتخفيفها ، وهو نقيض عوض ، فإنه ظرف

__________________

(١) ١٤ / آل عمران : ٣.

(٢) ديوان الفرزدق : ٥٧٠.

(٣) دعاه به أستاذه سيبويه.

(٤) ١٦ / ص : ٣٨.

٣٧٦

زمان مستقبل. فالقطّ فعل بمعنى مفعول ، كالذّبح والرّعي ، وقيل : القطّ هو الكتاب والصحيفة ، وهو اسم المكتوب ، كما يسمى الكلام كتابا وإن لم يكن مكتوبا ، وقال أبو عبيدة : القط : الحساب ، وفي حديث زيد وابن عمر : «كانا لا يريان ببيع القطوط بأسا إذا خرجت مكتوبة» (١) قال الأزهريّ : القطوط هنا : الجوائز والأرزاق ؛ سميت قطوطا لأنها كانت تخرج مكتوبة في رقاع وصكاك مقطوعة.

و «قط» بمعنى حسب ، وينوّن فيقال : قط قط ، ومنه الحديث : «في جهنّم حتى تقول قط قط» (٢) ويروى قط قط ويروى قطي قطي ، وقطني قطني بنون الوقاية وعدمها ، وأنشد (٣) : [من الرجز]

امتلأ الحوض وقال : قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني

وذلك لأنّ حسبا بمعنى الكفاية ففيها قطع عن الغير.

وأصل القطّ للمقطوع عرضا / كما أنّ القدّ للمقطوع طولا ، وقد تقدّم. ومنه حديث عليّ رضي الله عنه : «كان إذا علا قدّ وإذا توسّط قطّ» (٤) تقول : إذا علا قرنه بالسّيف قدّه بنصفين طولا كما يقدّ السّير فإذا أصاب وسطه قطعه عرضا وأبانه.

وقطّ السّعر : غلا لأنه قطع الأشياء لغلاء سعرها (٥). وقيل : عنى بقوله «قطّنا» أي نصيبنا من العذاب. يشير لقولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً)(٦). وقيل : نصيبنا ممّا ذكرت في الجنة ، قالوا ذلك استهزاء منهم وتهكّما.

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٨١.

(٢) النهاية : ٤ / ٧٨.

(٣) الرجز مذكور في اللسان والجوهري ، وفي شرح القاموس : سلا رويدا.

(٤) النهاية : ٤ / ٨١.

(٥) قال شمر : «قطّ السعر إذا غلا» ، خطأ عندي إنما هو بمعنى فتر. وقال الأزهري : وهم شمر فيما قال. وروي عن الفراء أنه قال : حطّ السعر حطوطا .. إذا فتر (اللسان ـ مادة قطط). (٦) ٣٢ / الأنفال : ٨.

٣٧٧

ق ط ع :

قوله تعالى : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً)(١) أي صاروا أحزابا وفرقا مختلفة في المذاهب والأديان. وقيل : على غير دين ولا مذهب بل هم فرق مختلفة وأحزاب متشتّتة.

والقطع : قطع الشيء أي فصله ، ثم هو ضربان ؛ ضرب مدرك بالبصر كما في الأجسام كقوله : (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(٢) وآخر مدرك بالبصيرة نحو قوله تعالى : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)(٣). قوله تعالى : (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ)(٤) من ذلك ، ثمّ قطع الطريق يقال باعتبارين : أحدهما قطعها بالسّير نحو قطعه مسافة كذا. والثاني باعتبار الغصب من المارّة والسالكين في الطريق ، وهم المعنيّون بقوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً)(٥). قيل : وإنّما سمي ذلك قطعا للطريق لتأديته إلى انقطاع الناس عن الطريق فجعل قطعا للطريق.

قوله : (ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ)(٦) قيل : هذا مثل لمن لم يرض برزقه ، فحاله كحال من علّق حبلا في سقف بيته ثم اختنق هل يفيده ذلك في ذهاب غيظه؟ فكذلك من تقتّر عليه رزقه.

ومن القطع المجازيّ قوله تعالى : (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً)(٧) عبّرت بذلك عن مضيّها فيما تريد. ويعبّر بالقطع عن الإهلاك كقوله تعالى : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٨) أي ليهلك جماعة منهم. وقطع الدّابر كناية عن إفناء نوع الإنسان وغيره ، كقوله تعالى : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا)(٩).

__________________

(١) ٥٣ / المؤمنون : ٢٣.

(٢) ٣٨ / المائدة : ٥.

(٣) ٢٧ / البقرة : ٢.

(٤) ٢٩ / العنكبوت : ٢٩.

(٥) ٣٣ / المائدة : ٥.

(٦) ١٥ / الحج : ٢٢.

(٧) ٣٢ / النمل : ٢٧.

(٨) ١٢٧ / آل عمران : ٣.

(٩) ٤٥ / الأنعام : ٦.

٣٧٨

قوله : (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ)(١) أي إلا أن يموتوا. فعبّر بذلك لأنّ تقطّع القلب لا تبقى معه حياة ، وبيّن سبب الموت الذي إذا سمعه الإنسان اقشعرّ جلده ، فهذا فائدة الكناية ، وإنما استثني الموت من شكّهم لأنّهم إذا ماتوا انفنوا ، قاله الهرويّ ، وهو تفسير معنى ، وقيل : المراد : إلّا أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندما على تفريطهم.

قوله : (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ)(٢) أي قطعة منه ، وأنشد (٣) : [من الخفيف]

من قطع ليل بهيم

وقرىء : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً)(٤) بسكون الطاء على ما تقدّم ، وبفتحها على أنه جمع قطعة (٥).

قوله : (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ)(٦) أي هي خلاف فاكهة الدنيا ؛ فإنها تنقطع في بعض الأحيان ، وتمنع إلا بالأثمان ، وفي عبارة بعض الصلحاء : غير مقطوعة في الأزمان ولا ممنوعة بالأثمان. وكان إذا رأى الفاكهة قال : «بيننا وبينك الجنة». وهذا وأمثاله من حسن اليقين وتيقّن لقاء الله عزوجل.

قوله تعالى : (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ)(٧) أي جعلت على مقاديرهم فيلبسونها لتشتملهم ، وما أحسن ما جاء لفظ التقطّع هنا ، حتى لو أتيت بكلّ لفظ مرادف له أو غير مرادف نحو فصّلت وقدّرت وسوّيت لم تجد له حلاوة ، فسبحان من تكلّم به وأعجز الخلق عن معارضته ، وهذا شأن ألفاظ القرآن كلّها.

__________________

(١) ١١٠ / التوبة : ٩.

(٢) ٨١ / هود : ١١.

(٣) جزء من عجز مذكور في اللسان ـ مادة قطع ، وتمامه :

افتحي الباب فانظري في النجوم

كم علينا من قطع ليل بهيم

(٤) ٢٧ / يونس : ١٠.

(٥) بسكون الطاء قراءة ابن كثير والكسائي ويعقوب. ويقول الفراء : وهي في مصحف أبي : «قطع» فهذه حجة لمن قرأ بالتخفيف. وإن شئت جعلت المظلم وأنت تقول قطع قطعا من الليل (فهي هنا حال من الليل) ، وإن شئت جعلت المظلم نعتا للقطع .. (معاني القرآن : ١ / ٤٦٢. مختصر الشواذ : ٥٧).

(٦) ٣٢ و ٣٣ / الواقعة : ٥٦.

(٧) ١٩ / الحج : ٢٢.

٣٧٩

والقطيع من الغنم : جماعتها لأنه قطع من جملتها ، وجمعه قطعان نحو رغيف ورغفان ، فهو كغيره من أسماء الجماعة المشتقّة من معنى القطع كالصّرمة والفرقة.

والقطيع ـ أيضا ـ السّوط. وأصاب بئرهم قطع أي انقطع ماؤها. ومقاطع الأودية مآخيرها. ويعبّر بالقطع عن القصر ، ومنه الحديث : «وعليه مقطعات له» (١) قال أبو عبيد : هي الثياب القصار ، وقال شمر : هي كلّ ثوب يقطع من قميص وغيره ، ومن الثياب ما لا يقطع كالأزر والأردية ، ولا تفرد المقطّعات ، ف [لا] يقال للجبة القصيرة ولا للثوب القصير مقطّعة ولا مقطّع.

وأقطع الأمير الجند كذا ، أي جعلها لهم يختصّون بها. وقطع بعضها من بعض ، وفي الحديث : «فأقطعه الملح» (٢) ، وفي حديث آخر : «لمّا قدم المدينة أقطع الناس الدور» (٣). ومن كلام عمر ـ رضي الله عنه ـ «ليس فيكم من تقطع عليه الأعناق مثل أبي بكر هذا» (٤) مثل يقال للفرس الجواد إذا تقطّعت عليه أعناق الخيل فلم تلحقه ، وأنشد للجعدي (٥) :

يقطّعهنّ بتقريبه

ويأوي إلى خضر ملهب

ق ط ف :

قوله تعالى : (قُطُوفُها دانِيَةٌ)(٦) القطوف جمع قطف نحو حمل وحمول. والقطف هو العنقود ، وقيل : هو اسم لكلّ ثمرة قطفت ؛ فهو فعل بمعنى مفعول نحو الذّبح ، والمعنى أنّ ثمارها لا تبتعد عن متناولها بل يروى أنه إذا خطر للرجل أن يأكل من ثمرة كذا دنا له قطفها بين يديه. وفضل الله أوسع من ذلك.

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٨١.

(٢) النهاية : ٤ / ٨٢ ، وفيه : «استقطعه».

(٣) المصدر السابق.

(٤) النهاية : ٤ / ٨٣ ، وفيه : « .. دونه الأعناق ..» ورواية اللسان والتاج مؤيدة للنص.

(٥) نسبه الأزهري إلى الجعدي ، بينما عزاه ابن منظور إلى أبي الخشناء.

(٦) ٢٣ / الحاقة : ٦٩.

٣٨٠